تعالوا إليَّ يا جميعَ المتعبين وثقيلي الأحمالِ

Hits: 3296

تعالوا إليَّ يا جميعَ المتعبين وثقيلي الأحمالِ - بقلم: سمير الشوملي

   أرحبُ بكم، إخوتي وأخواتي، سأتناولُ في هذه اليوم نصًّا قلّما يتمُّ تناولُه كدليلٍ على ألوهةِ يسوع المسيحِ إلى جانبِ مئاتِ الإشارات التي يكتظُّ بها الكتابُ المقدسُ. يقولُ الوحيُ الإلهيِّ على لسانِ السيدِ المسيحِ المبارَكِ: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَثقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ." (متى 11: 28 – 30)

ولنلاحظْ أن النصَّ اليونانيَّ الأصليَّ لا يستخدمُ كلمةَ "المتعبين" كصفةٍ، بل كفعلٍ مضارع. فهو يتكلمُ عن "كلِّ الذين يَتعَبون"، أي الذين يُنهكون أنفسَهم. وكما أن تعبيرَ "ثقيلي الأحمالِ" لا يُستخدَم كصفة، بل يأتي بصيغةِ الفعلِ المضارعِ المبني للمجهول، حيثُ يشيرُ إلى كلِّ الذين "حُمِّلوا أثقالًا"، ربما من المجتمعِ أو التقاليدِ. فيسوعُ المسيحُ يخاطبُ كلَّ البشرِ الذين أتعبوا أنفسَهم بالمساعي غيرِ المجدية أو أتعبَهم آخرون بفرضِ أعباءٍ ثقيلةٍ عليهم. ومن المؤكدِ أن هذا يشملُ البشرَ جميعًا. فكلُّنا محتاجون إلى راحةِ المسيح.

  يلاحظُ السامعُ والمحللُ اتِّزانَ يسوعَ، وهدوءَهُ، وثقتَهُ المطمئنّةَ وهو يقدِّم هذا العرضَ للراحةِ. ولأنه ممتلئٌ بالسلامِ في ذاتِهِ من دونِ أيِّ وجودِ صراعٍ داخلَهَ، على خلافِ البشرِ الآخرينَ المعجونينَ بالخطيةِ، فإنه قادرٌ على إعطاء سلامٍ من هذا النوعِ لمن يتبعُه. إذ قالَ: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ." (يوحنا 14: 27) فلا حاجةَ إلى الاضطرابِ والخوفِ مع سلامِ السيدِ المسيح.

  لكنْ كيف يمكنُ لأيِّ إنسانٍ أن يعطي راحةً وسلامًا لأيِّ إنسانٍ؟ غيرَ أن الدعوةَ المقدمةَ من السيّدِ ليست إلى فردٍ أو مجموعةٍ، بل إلى كلِّ المتعبين وثقيلي الأحمالِ، وهي دائرةٌ تتسعُ لكلِّ إنسانٍ في الكونِ مستعدٍّ أن يقبلَ دعوةَ يسوعَ. وفضلًا عن ذلك، فإنّ ما يعرضُهُ هنا هو شيءٌ داخليٌّ روحيٌّ ونفسيٌّ لا يقدرُ أيُّ نبيٍّ مهما كانت الرسالةُ التي يحملُها، ولا طبيبٌ مهما كانت براعتُه، ولا حكيمٌ مهما بَعُدَ نظرُه، ولا غنيُّ لو امتلكَ الأرضَ كلَّها، ولا حبيبٌ مهما بذلَ وأَخْلَصَ. فلا بدَّ أنّ يكونَ لدى من يقدِّمُ هذا العرضَ مؤهلاتٌ أخرى تبررُ ثقتَهُ بإيفاءِ وعدِهِ وإثباتِ ما جَرُؤَ على قولِه.

  وبطبيعةِ الحالِ، لم يقصِّرْ يسوعُ يومًا في دعمِ كلامِه بأفعال، فلم يخجلْ أو يعتذرْ أو يختلقْ عذرًا على تقصيرٍ. لكنَّ هذا التصريحَ المذهلَ جاء مباشرةً بعد إعلانٍ لهُ حولَ علاقتِهِ باللهِ الآبِ، أبيهِ السماويِّ، يوضحُ هُويتَهُ ويقدّمُ ركيزةً لما قاله، حيثُ أعلنَ في متى 11: 27: "كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ." يطلقُ السيدُ هنا ثلاثةَ تصريحاتٍ: أولًا، أن أباه السماويَّ قد أعطاه كلَّ سلطانٍ في السماء وعلى الأرضِ، كما أيضًا صرّحَ في متى 28: 18. فكلُّ شيءٍ تحتَ تَصَرُّفِه ورهنَ إشارتِه. وكلُّ المواردِ الماديةِ والروحيةِ وأيّةُ مقَدَّراتٍ مسخَّرةٌ له. فهو القديرُ على كلِّ شيءٍ. ثانيًا، هنالك معرفةٌ حميميةٌ بين اللهِ الآبِ وبينَ الله الابنِ المتجسدِ، وهي مقصورةٌ عليهما، وعلى الروح القدسِ أيضًا، بطبيعةِ الحالِ. فلا يعرفُ كينونةَ اللهِ الآبِ حقَّ المعرفةِ إلا الابنُ، ولا يعرفُ كينونةَ اللهِ الابنِ إلا الآبُ، لأنهما واحدٌ من حيثُ الجوهرُ. فهو يعرفُ أحدُهما الآخرَ كما يعرفُ نفسَهُ في كلِّ أبعادِ كينونتِه. ثالثًا، لا يستطيعُ أحدٌ من البشرِ أن يعرفَ اللهَ الآبَ أو اللهَ الابنَ إلاّ من خلالِ السيدِ المسيحِ وبإرادتِه السياديةِ الحرةِ. ولهذا يقولُ في يوحنا 14: 6 أيضًا في انسجامٍ كاملٍ مع هذه الحقيقةِ: "أنا هو الطريقُ والحقُّ والحياةُ. ليسَ أحدٌ يأتي إلى الآبِ إلا بي." فلا يستطيعُ أن يوصلَكَ إلى اللهِ إلا من يعرفُ اللهَ، ويحملُ نفسَ جوهرِهِ وصفاتِه. والجميلُ في هذا الأمرِ أن السيدَ المسيحَ يتوقُ إلى تعريفِ أي إنسان راغبٍ باللهِ وبطريقِه.

  تشكلُ هذه الحقائقُ رصيدًا يسمحُ له بحقٍّ أن يعرضَ على كلِّ متعبٍ راحتَه وسلامَه. والشيءُ المذهلُ العجيبُ الرائعُ في هذا الأمرِ هو أن هذا الكائنَ القديرَ كلّيَّ القوةِ ممتلئٌ رحمةً وشفقةً ورأفةً. وهو لا يسعى إلينا لنقدّمَ له شيئًا. فهو غيرُ محتاجٍ إلينا في أيِّ شيءٍ. بل يدعونا في محبتِهِ، لا ليزيدَ من أعبائِنا ويُرهقَنا، بل ليخلِّصنا من أحمالِنا الثقيلةَ وغيرَ الضروريةِ وليقدّمَ لنا أفضلَ ما لديه. لا يدعونا إليه ليستعبدَنا، بل ليحررَنا من قيودٍ كبّلْنا أنفسنا بها، وقيودٍ أُخَرَ كبَّلنا بها آخرون. وهو يبيّنُ بهذا أنه معنا وليسَ ضدَّنا.

  تبدأُ دعوتُهُ لنا إلى أن نأتي إليه شخصيًّا. وهي لا تتضمنُ دعوةً إلى دينٍ، أو عقيدةٍ، أو مجموعةٍ من المبادئِ، أو مؤسسةٍ دينيةٍ. بل هي دعوةٌ شخصيةٌ من شخصٍ إلى شخصٍ لبَدْءِ علاقةٍ شخصيةٍ به. وهي تبدأُ بإيمانِنا إياهُ كما هو مُعلَنٌ عنه في كتابِهِ المقدسِ، وبقَبولِ فدائِه لنا على الصليبِ من أجلِ خطايانا. وهذه خطوة أولى لبدءِ رفعِ أعباءٍ كثيرةٍ على كواهلِنا.

  فهو يرفعُ أولًا عن عنائِنا غير المُجدي في البحثِ عن اللهِ الحقيقيِّ والوصولِ إليه. فنحن نرى اللهَ غيرَ المنظورِ فيه. فكما قال الوحيُ الإلهيُّ في كولوسي 1: 15 عن المسيحِ: "الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ." وقالَ السيدُ نفسُهُ ردًّا على طلبٍ من أحدِ تلاميذِه: "قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ:«يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا». 9قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟ 10أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟" (يوحنا 14: 8 - 10) فإن كنتَ تتوقُ إلى معرفةِ اللهِ الحقيقيِّ، فالجأْ إلى يسوعَ المسيحِ، الإلهِ المتجسدِ. لقد عذَّبَ كثيرون أنفسَهم بالتصوُّفِ والتقشُّفِ وجَلْدِ الذاتِ على أملِ الوصولِ إلى لمحةٍ سماويةٍ أو خبرةٍ عميقةٍ تُدْنيهم من عتباتِ السماءِ أو استنزالِ إعلاناتِ أو كشفٍ يُشبعُ فضولَهم. وبطبيعةِ الحالِ، فإن جهودَهم محكومةٌ بالفشلِ منذُ بدايتِها، مهما بلغتْ شدّتُها، لأنّ اللهَ هو الذي يقدرُ على أن يصل إلينا ولا نقدرُ نحن أن نصلَ إليه. فهو الذي لا بدَّ أن يبادرَ. وقد فعلَ هذا عندما اتخذَ طبيعةً بشريةً كاملةً، إلى جانبِ طبيعتِهِ الإلهيةِ الكاملةِ في يسوعَ المسيح. ولهذا تقولُ كلمةُ اللهِ في فيلبي 2: 6 - 8: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ." والسرُّ الجميلُ هو أنه يتوقُ إلى أن يعرفَهُ كلُّ إنسانٍ. وهو لا يردُّ ولا يَصُدُّ أحدًا مهما كان ماضيه. يقولُ: "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا." (يوحنا 6: 37) اعترفْ له بظمئِك وجوعِك، وهو سيرويك ويُشبعُك حسبَ وعدِه: "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا." (يوحنا 5: 35)

  وعندما تؤمنُ بيسوعَ المسيحِ، يخلِّصُكَ من أهوالِ الجحيم وخوفِهِ معًا، لأنه يكونُ قد دفعَ جزاءَ خطاياك واهبًا إياك حياةً أبديةً سعيدةً معه. قالَ: "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ." (يوحنا 3: 16) وهو يطمئنُ كلَّ مؤمنٍ أنه قد حصلَ بالفعلِ على هذه الحياةِ الأبديةِ: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ." (يوحنا 5: 24) ويستخدمُ السيدُ هنا لغة التوكيدِ بافتتاحِ كلامِهِ بكلمتي "الحقَّ الحقَّ"، وهي تعني "آمين". فهو يؤمِّنُ على كلامِهِ سلفًا، أي قبلَ أن يقررَ الحقيقةَ التي يقصدُها، لأنه متأكدٌ مما يقولُهُ، وهو يريدُ من السامعين أن يطمئنوا إلى صدقِ كلامِه. بل إنه يؤكدُ لنا أنه هو "الآمينُ" نفسُه، كما أطلقَ على نفسِه في رؤيا 3: 14. فهو وحدَه صاحبُ اليقينِ والقادرُ على تنفيذِ وعودِه لنا. فلا حاجةَ إلى خوفٍ أو شك يعذِّبُنا. يَعِدُ في يوحنا 14: 1 -3: "لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا." ويؤكدُ الوحيُ هذه الحقيقةَ في 1 يوحنا 5: 9، 11 – 12 لنا شهادةَ اللهِ عن هذا الأمرِ: "إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ النَّاسِ، فَشَهَادَةُ اللهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ شَهَادَةُ اللهِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ابْنِهِ. مَنْ يُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ فَعِنْدَهُ الشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ.... وَهذِهِ هِيَ الشَّهَادَةُ: أَنَّ اللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ فِي ابْنِهِ. مَنْ لَهُ الابْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ." ولا يخشى المؤمنُ بالمسيحِ أن يفقدَ هذا الخلاصَ وهذه الحياةَ الأبديةَ واثقًا بصدقِ وعدِ اللهِ وقدرةِ اللهِ على حفظِه. يقولُ السيدُ: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ." فنحن محفوظون في يدٍ قويةٍ حنونٍ.

  ومع الفداءِ الثمينِ والخلاصِ من الخطايا، يرتفعُ عن كاهلِ الإنسانِ شعورُ الذنبِ. يُخبرُنا علماءُ النفسِ أن الشعورَ بالذنبِ أكبرُ قوةٍ تدميريةٍ في ذاتِ الإنسان. وهي تتحكمُ في وعيِه ولاوعيِه، وتؤدي به في الغالب إلى سلوكياتٍ غير سويةٍ. قد يحاولُ أن يتجاهلَهُ أو أن يكبتَه أو أن يعوّضَ عنه بطريقةٍ أو أُخرى، لكنْ عبثًا. بل إن الذنبَ يكمنُ وراءَ عُقَدٍ نفسيةٍ كثيرةٍ. ولا يوجدُ حلُّ حقيقيٌّ عمليٌّ له إلا الغفرانُ مدفوعُ الثمنِ. كان العابدُ في العهدِ القديمِ يقدّمُ ذبائحَ حيوانيةً مطلوبةً من اللهِ عن خطاياه. فرُغمَ أنه كان يقدِّمُها طاعةً لله حسبَ شريعةِ موسى، إلا أنه لم يكن مقتنعًا تمامَ الاقتناعِ بأن موتَ حيوانٍ يمكنُ أن يكون تكفيرًا لخطاياه لأن الحيوانَ أقلُّ منزلةً من الإنسانِ بكثير. ولهذا ظلتْ ضمائرُهم تُوْخِزُهم، كما تبينُ كلمة اللهِ في عبرانيين 10: 1 – 2: "لأَنَّ النَّامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ الْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ لاَ نَفْسُ صُورَةِ الأَشْيَاءِ، لاَ يَقْدِرُ أَبَدًا بِنَفْسِ الذَّبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ، الَّتِي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ، أَنْ يُكَمِّلَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ. وَإِلاَّ، أَفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ؟ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْخَادِمِينَ، وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً، لاَ يَكُونُ لَهُمْ أَيْضًا ضَمِيرُ خَطَايَا." كانت قيمةُ تلك الذبائحِ تكمُنُ في أنها ترمزُ لذبيحة المسيحِ نفسِهِ على الصليبِ، ولهذا كان اللهُ يقبلُها إلى أن يأتي المرموزُ إليه الذي سيقدمُ كفارةً كافيةً وتحققُ الغفرانَ. وهو أمرٌ يقدمُه اللهُ لنا في المسيحِ. فقد حمل المسيحُ خطايانا كلَّها على الصليبِ، ولهذا يمكنُنا أن ننظرَ بشكرٍ إلى تلك الخطايا على أنها من الماضي. ولأننا اختبرنا محبةَ اللهِ وغفرانَهُ، يمكنُنا أيضًا أن نقدمَ النعمةَ والغفرانَ للآخرين، كما تقولُ كلمةُ اللهِ في كولوسي 3: 13: "مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا." وهكذا نرتاحُ من الشعورِ بالدينونةِ، حيثُ يؤكدُ الوحيُ الإلهيُّ: "إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ."

ويرفعُ السيدُ المسيحُ عن كاهلِ الإنسانِ مطالبَ الشريعة الثقيلةَ في العهدِ القديمِ كشرطٍ للحصولِ على برِّ اللهِ وقَبوله والفوزِ بالحياةِ الأبديةِ. ويعترفُ بطرسُ تلميذُ يسوعَ باستحالةِ حِفظِها بسببِ طبيعةِ الإنسانِ وإثمِه. ويستنكرُ أن يحاولَ أحدٌ أن يفرضَ على المؤمنين بالمسيحِ تلك الشرائعِ كمتطلَّبٍ للخلاص. وتكمنُ المشكلةُ في أن الشريعةِ لا تخلِّصُ أحدًا، لكنها تأتي بالدينونةِ واللعنةِ على من يكسرونها. فكما يقول الوحيُ في غلاطية 3: 10. "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ." وحين يكسرُ وصيةً واحدةً في الشريعة التي تصلُ إلى ستِّ مئةٍ وثلاثِ عشرة وصية، فإنه يُعَدُّ كاسِرًا للشريعةِ كلِّها، لأنها وحدةٌ واحدةٌ. ولهذا تقولُ كلمةُ اللهِ في يعقوب 2: 10: "لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ." وعلى هذا الأساسِ، استهجنَ بطرسُ تلميذُ المسيحِ في أعمال 15: 10- 11 دعوةَ بعضِهم إلى العودةِ الشريعةِ اليهوديةِ: "فَالآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ لكِنْ بِنِعْمَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولئِكَ أَيْضًا."

 والفكرةُ هنا هي أننا لا نعملُ بجهودِنا لاكتسابِ برّ اللهِ ومقبوليّتِنا لديه كأُجرة أو كمكافأةٍ لنا. لكنّ المسيحَ يبادرُ بإعطائِنا هذا البرَّ وهذه المقبوليةَ لدى اللهِ فورَ إيمانِنا به، لأنه هو وحدَه البارُّ الذي عاشَ كلَّ مطالبِ اللهِ بشكلٍ كاملٍ. ونحن، بالإيمانِ بالمسيح، نتوحدُ فيه ويرانا الله من خلالِه. وهكذا يُريحنا السيدُ المسيحُ بجعلِ النعمةِ بالإيمانِ لا أعمالِ الشريعة مرتكزًا للخلاصِ. إذ يؤكدُ رسولُهُ بولسُ هذا المبدأَ الجميلَ: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ."

واعترضَ السيدُ نفسُهُ التقاليدَ البشريةَ التي أضافها الكتبةُ والفرّيسيون ليُثقلوا بها الناسَ العاديين، "فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ، وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ." (متى 23: 3) وهكذا يرفضُ المسيحُ الفتاوى التي يخترعُها رجالُ الدينِ اليهودُ ليجعلوا الدينَ أكثرَ صعوبةً. فالشرائعُ الأكثرُ لا تعني تقوى أكثرَ. وهو تحذيرٌ لرجالِ الدينِ في المستقبلِ والذين يمكنُ أن يعملوا ضدّ اللهِ وطريقِه.

ويريحُنا ابنُ اللهِ أيضًا من سوءِ تفسيرِ كلمةِ الله وبالتالي من سوءِ تطبيقِها. فقد فَهِم رجالُ الدينِ أنه يُقصَدُ بيومِ السبتِ (يومَ الراحةِ عندَ اليهودِ) أن يكونَ قيدًا من اللهِ على الإنسانِ. بل اعترضوا على قيامِ المسيحِ في مناسباتٍ بشفاء مرضى في يومِ السبتِ، وكأنهم في قسوتِهم يفترضون أن اللهَ يفضِّلُ أن يبقى المرضى على حالَهم من العجزِ والوجعِ والمعاناةِ. بل افترضوا أن تلك الأمراضَ كانت مستحقةً بسببِ إثم هؤلاء المرضى وخطاياهم، وأن الشفاء بالتالي يناقِضُ إرادةَ اللهِ. قال السيدُ: "السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ." (مرقس 2: 27) ويعني هذا أن واضعَ السبتِ، وهو اللهُ، قصَدَ أن يكونَ السبتُ في خدمة الإنسانِ ليرتاحَ فيه ليستطيعَ أن يعبدَ اللهَ بشكرٍ ومن دونِ قيودٍ. واللهُ الآبُ واللهُ الابنُ في عملٍ منسجمٍ دائمٍ في هذا الأمرِ. ولهذا قالَ في يوحنا 5: 17: "أبي يعملُ حتى الآنَ وأنا أعملُ." ثمّ يفاجئُ السامعين بإعلانِه قائلًا في مرقسَ 2: 28 مشيرًا إلى نفسِه: "إِذًا ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا." فهو نفسُهُ واضعُ السبتِ، وهو بالتالي المشرِّعُ الإلهيُّ.

ونحن نجدُ الآنَ راحتَنا في المسيحِ نفسِهِ، لا في يومٍ معيّنٍ من الأسبوعِ. فكلُّ أيامِ الأسبوعِ سواسيةٌ. ونحن نعيشُ المسيحَ كلَّ يومٍ في عبادةٍ  للهِ من خلالِه. فهو سَبْتُنا. ويتوجبُ أن نتذكرَ أن راحتَنا هي في شخصٍ (شخصِ المسيحِ)، لا في يومٍ.

   ونأتي إلى ناحيةٍ أخرى يريحُنا فيها السيدُ. ونسألُ قبلَها: إنْ كان الخلاصُ والحصولُ على البرِّ هو عطيةَ اللهِ بالإيمانِ، أيعني هذا أنّ المؤمنَ بالمسيحِ معفيٌّ من القيامِ بأعمالٍ صالحةٍ؟ والجوابُ هو قطعًا لا. فالإيمانُ الذي لا يثمرُ أعمالًا صالحةٌ إيمانٌ ميّت، فقد خلقنا اللهُ وفدانا لنعملَ أعمالًا صالحةً، لا لكي نحصلَ على الخلاصِ، بل لأننا حصلنا بالفعلِ عليه، ولأننا نريدُ أن نعكسَ ما صنعه اللهُ فينا، "لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا." (أفسس 2: 10) وكما قال يسوعُ المسيحُ نفسُه في متى 5: 16: "فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ." غيرَ أننا نقومُ بأعمالٍ صالحةٍ بجَهدٍ بشريٍّ وقوةٍ ذاتيةٍ، إنما بقوةِ الروحِ القدسِ الساكنِ فينا: "لا بالقوةِ ولا بالقدرةِ، بل بروحي، يقولُ ربُّ الجنود." (زكريا 4: 6) ولهذا لا ترى مؤمنًا حقيقيًّا بالمسيحِ يتباهى صالحٍ قام به. إذ قال السيدُ: "مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ، لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا." (لوقا 17: 10)

والمسيحُ نفسُهُ يريحُ المؤمن في حياتِهِ الجديدةِ معه وفي أعبائِه. فهو يشاركُه إياها. وهذا أمرٌ نستنبطُهُ من الصورةِ المجازيةِ للنِيْرِ. إذ يشتركُ الاثنانِ في نيرٍ واحدٍ، كما يشتركانِ ثورانِ يربطُهما نيرٌ وهما يفلحان الأرَضَ. ولن يتركَ المسيحُ المؤمنين به يفعلون ما لا يقدرون عليه أو لا يُطيقونه. بل إن دورَهُ جوهريٌّ وحاسم. إذ يقولُ في يوحنا 15: 5: "بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا."

ويريحُنا المسيحُ في مسألةِ إثباتِ الأهميةِ والمنزلةِ. فكثيرون يكدّون ليجمعوا المالَ ليشتروا به احترامًا، ويحاول بعضُهم القيامَ بالمستحيلِ من أجلِ الحصولِ على منصبٍ يميّزُهم عن آخرين أو يمنُحهم سُلطةً وامتيازات. قد يسرقون ويغِشون ويقتلون في سبيلِ ذلك. وأمّا المؤمنُ الحقيقيُّ بالمسيحِ، فلا يَهُمُّهُ تلك الطُموحاتُ. إذ جعلهُ إيمانُهُ بالمسيحِ ابنًا لله. تشهدُ كلمةُ اللهِ قائلةً: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ." (يوحنا 1: 12) ومن المؤكدِ أن أي منصبٍ يمكنُ أن يحصلَ عليه إنسانٌ لن يكونَ في نفسِ هذا المستوى. ويضيفُ السيدُ المسيحُ مخاطبًا المؤمنين به: "لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي." (يوحنا 15: 15) ويمكنُ أن تترجمَ كلمةُ أحباءَ إلى أصدقاءَ. فيا لهذا الامتيازِ العجيبِ الخرافيِّ! وفي مواضعَ أخرى، يسمّينا الوحيُ الإلهيُّ إخوةً ليسوعَ المسيحِ، كما في عبرانيين 2: 11: "لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً." فما الذي يمكنُ أن يفضلَهُ إنسانٌ عاقلٌ على هذه الامتيازاتِ؟ ولا يدفعُنا هذا إلى التفاخرِ على غيرِ المؤمنين بسببِ هذه المنزلةِ والامتيازاتِ، لأننا لم نحصلْ عليها بشطارتِنا وذكائنا وجهودِنا، بل هي عطيةٌ مجانيةٌ من اللهِ، وهي متاحةٌ لكلِّ من يأتي إلى السيدِ المسيحِ بالإيمان. بل إن هذه المنزلةَ تدفعُنا إلى خدمةِ الآخرين في احتياجاتِهم، عارفين أن هذا لا يقللُ من شأننا أو من منزلتِنا عندَ الله. ونحن نجدُ مثلًا لهذه الروحِ في السيدِ المسيحِ. لقد كان مستعدًا لغسلِ أقدامِ التلاميذِ لأنه كان عالمًا بهُويتِه الإلهيةِ وسلطانِهِ الكاملِ، لأنه عرف أن خدمتَهُ للتلاميذِ لن تقللَ من شأنِه ولن تهددَ من منزلتِه، بل سيضفي تواضعُهُ العجيبُ مجدًا. نقرأُ في يوحنا 13: 3 – 5: "يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي، قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا."

ويأتي هذا بنا إلى النقطةِ التي شرحَها السيدُ في نصِّنا الأساسيِّ: "تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ." نحن نجدُ راحتَنا أيضًا في المسيحِ عندما نتعلمُ منه الوداعةَ والتواضعَ وخدمةَ الآخرين. ومن الجديرِ بالملاحظةِ أن صفةَ التواضعِ لا تنطبقُ على أحدٍ مثلَ انطباقِها على يسوع. فكما يقولُ الوحيُ في فيلبي 2: 6 – 8: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. " ولهذا قالَ لتلاميذِه ولنا من بعدِهم: "فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ." (يوحنا 13: 14) وأمّا إظهارُ الغطرسةِ والتعالي والغرورِ والقسوةِ فإنها لا تنمُّ عن أهميةِ صاحبيها أو قدْرِهم الحقيقيِّ، على الأقلِّ عندَ اللهِ. وهي أمورٌ تتعبُ صاحبَها والذين يتعاملون معه. وعلى نقيضِ ذلك، تشجعُنا كلمة اللهِ على تطويرِ معدنٍ أخلاقيٍّ عالٍ شبيهٍ بمعدنِ المسيحِ الأخلاقيِّ قَدْرَ الإمكانِ. وهو يتضمنُ، إلى ما سبقَ، المحبةَ والتضحيةَ، واللطفَ، والصبرَ، وطولِ البال، والعفافَ، والطُهرِ، والمسالمةِ، والصلاحِ، والصدقِ وكلِّ ما هو متّفقٌ على أنه فضيلةٌ. ومن شأـنِ هذه الفضائل أن تسمو بقيمةِ الإنسانِ. وهي الأمورُ التي يثمِّنُها اللهُ ويكافئُ عليها بالنسبةِ للمؤمنين بالمسيح.

هذا هو الإلهُ الصالحُ الجميلُ الذي يريدُ أن يريحَنا من أتعابِنا غير الضروريةِ، وينزعَ عنا التقاليدِ الباليةِ المرهقةِ، ويعزّينا في معاناتِنا وشدائدِنا، ويسيرُ معنا خطوةً فخطوةً حتى بابِ السماء.