اجتياز التجارب الصعبة

Hits: 1990

اجتيازُ التّجارِبِ الصّعبَةِ - بقلم: ليث مقادسي

سَيرُنا معَ اللهِ كتلاميذَ سيكونُ مليئاً بالإثارَةِ وتذَوُّقِ نشوَةِ الانتصاراتِ الرّوحيّةِ كونُنا نعمَلُ مع أعلى سُلطَةٍ روحيّةٍ في هذا الكونِ، وحيثُ أنّنا لا نزالُ في الْجَسَدِ، أي مُتَغَرِّبينَ في مملكَةِ إبليسَ، فَعَلَينا توقُّعُ فِخاخِ العدُوِّ بينَ الحينِ والآخَرِ، وكُلَّما ازدادَ تعظُّمُ عمَلِ الرّبِّ مِن خِلالِنا، كلَّما ازداد غيضُ العدوِّ ومخطَّطاتُهُ لإسقاطِنا.

سنتطرّقُ في هذا التأمُّلِ إلى بعضِ التّقَنيّاتِ التي تُفيدُ خُدَّامَ الربِّ في اجتيازِ التّجارِبِ الصّعبَةِ:

١- تثبيتُ النظّرِ على الهدَفِ:
حيثُ هدفُنا هو الملكوتُ، فيجِبُ تثبيتُ النظَرِ على بِرِّهِ. تحدَّثَ بولسُ الرّسولُ في رسالَتِهِ إلى أهلِ فيلِبّي قائلا: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلَكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ. أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَلْيَفْتَكِرْ هَذَا جَمِيعُ الْكَامِلِينَ مِنَّا، وَإِنِ افْتَكَرْتُمْ شَيْئاً بِخِلاَفِهِ فَاللهُ سَيُعْلِنُ لَكُمْ هَذَا أَيْضاً. وَأَمَّا مَا قَدْ أَدْرَكْنَاهُ، فَلْنَسْلُكْ بِحَسَبِ ذَلِكَ الْقَانُونِ عَيْنِهِ، وَنَفْتَكِرْ ذَلِكَ عَيْنَهُ. فيلبي ٣: ١٣-١٦"

دعوةُ اللهِ لنا دعوةٌ عُليا، لأنَّها تأتي مِنَ السّماءِ، وهدَفُها أن نتَّجِهَ إلى السّماءِ. معنى كلامِ الرّسولِ، أنَّني بنظرَةٍ هادِئَةٍ لماضِي حياتي أرى أنَّني لم أَصِلْ بعدُ للمستَوَى الذي لا أحتاجُ فيه إلى مَزيدٍ مِنَ الْجِهادِ ومزيدٍ مِنَ النُّمُوِّ ومزيدٍ مِنَ المعرِفَةِ ومزيدٍ مِنَ الحُبِّ، وأشعُرُ أنَّني في احتياجٍ للكثيرِ كي أُتَمِّمَ الهدفَ الذي قَصَدَهُ لِيَ الرّبُّ. لذلكَ أنا أنسَى كُلَّ ما حَصلتُ عليه (أو وَصَلتُ إليهِ) في الماضِي سَواءٌ كانَ مكاسِبَ أم سَلبِيّاتٍ، حتّى لا يُعَوِّقَني شَيءٌ عنِ الْجِهادِ الإيجابِيِّ لمزيدٍ مِنَ النّمُوِّ في معرِفَةِ الرّبِّ.

واحِدَةٌ مِنَ الصِّفاتِ الواجِبِ تطويرُها باستمرارٍ هي نِسيانُ الماضِي وَعَيشُ كُلِّ يَومٍ كأنَّنَا قد وُلِدنا فيهِ مِن جديدٍ. حينما أنسَى، سيكونُ امتدادِي للأمامِ صحيحاً، أي سأقترِبُ يومِيّاً مِن دعوَةِ اللهِ العُليا لحياتِي. كيفَ استفادَ بولُسُ مِن هذا النَّسَقِ أوقاتَ التّجارِبِ الصَّعبَةِ؟ مِن خِلالِ ثمرِهِ المـُتَزايِدِ حتى وهو في السِّجنِ، إذ كانَ يكتُبَ الرّسائِلَ ويُعَزّي ويُقَوّي المؤمنينَ.

هل تَمُرُّ بمرحَلَةٍ صِحّيّةٍ صعبَةٍ جِدّاً؟ مرَضٌ ليس له شفاءٌ؟ هناكَ سيدَةٌ مؤمِنَةٌ مَرّت بهكذا تجرِبَةٍ، ما الذي فَعَلَتهُ؟ نَسِيَت مرَضَها وذَهَبَت تُعَزّي كُلَّ مَن لدَيهِ نَفسَ مَرَضِها، أي أنها لم تَسمَح لتِلكَ التّجرِبَةِ مِن إعاقَةِ نُمُوِّها الرّوحِيِّ، تَعزِياتُها كانَت مُؤَثِّرَةً جِدّاً في قُلوبِ الآخَرينَ كونُها تُعاني مِثلَهُم. كيف تفاعَلَ المـَلَكوتُ مع هكذا تَصَرُّفٍ؟ صَنَع شفاءً تامّاً للمرأَةِ فحصَلَت على بَرَكَةٍ كبيرَةٍ كونُها استَثمَرَت كُلَّ دقيقَةٍ في حياتِها تُطَوِّرُ نَسَقَ نِسيانِ الماضِي وواقِعَ الحالِ المـُؤلِمِ وتعمَلُ مُنقادَةً بالرّوحِ القُدُسِ لإتمامِ أعمالِ اللهِ.

هل تنتظِرُ معامَلَةَ الهجرَةِ والوَضعُ مَعَقّدٌ جِدّاً؟ صَلِّ لكيما يستخدِمُكَ الرّبُّ لتكونَ سببَ تعزِيَةٍ للكثيرينَ مِمَّن يمُرّونَ بمثلِ حالَتِكَ، كُلّما راوَدَتكَ أفكارُ الفشَلِ، انْتَهِرْها وأَعلِنْ أنَّكَ مُنتَصِرٌ على الدّوامِ على الصّعيدِ الرّوحِيِّ. تنبّأْ بالبركاتِ وَاحْصُر تَفكيرَكَ بِعَمَلِكَ معَ الرّبِّ. أعرِفُ شَخصاً أصبحَ سببَ بركَةٍ للكثيرينَ خِلالَ فترَةِ انتظارِهِ لفيزا الهجرَةِ، وكانَ مُثمِرًا جِدّاً، وفَجأَةً حصلَ على الفيزا وسافَرَ. فنُلاحِظُهُ استَثمَرَ كامِلَ وَقتِهِ.

هل حالُ أولادِكَ باتَ صعباً جِدّاً؟ حاوَلتَ مِراراً ولكن بلا جَدوَى؟ اِنسَ واقِعَ حالِكَ وَارْتَمِ في أحضانِ الرّبِّ وَاسأَلْهُ عنِ الخَطَواتِ الواجِبِ اتِّباعُها ليجعَلَكَ شجرَةً مُثمِرَةً للكثيرينَ. حينَها هو مَن سيهتَمُّ بأولادِكَ ويُعطيكَ حكمَتَهُ بكيفيّةِ جَعلِهِم مُمَيَّزينَ لِحسابِ الملكوتِ.

إبليسُ يستخدِمُ التّجرِبَةَ الصّعبَةَ لإحداثِ التَّشويشِ الرّوحِيِّ تُجاهَ الهدَفِ، أي يُحيدُ نَظَرَنا عَن يَسوعَ إلى المشكلَةِ. أفضلُ تدريبٍ نحتاجُهُ في حياتِنا الرّوحيَّةِ هو تَذَكُّرُ يسوعَ بِاستمرارٍ. هو ليسَ بالشّيءِ الهَيِّنِ وقتَ التّجرِبَةِ، حيثُ الخوفُ والقلقُ وكُلُّ المشاعِرِ السَّلبِيّةِ تجتَمِعُ معاً، ولكِنَّهُ مِشوارٌ ننمو فيه لإدامَةِ هذه الخاصّيّةِ المفيدَةِ.

التمرينُ الثاني المهِمُّ هو التّدَرُّبُ على انتِهارِ إبليسَ على الدّوامِ وطلَبِ قُربِ الرّبِّ مِنّا في هذِهِ الأوقاتِ. البارِحَة َكنتُ اتحدَّثُ مع صديقٍ لي يَمُرُّ بمرحَلَةٍ صعبَةٍ صِحِّيّاً ونفسِيّاً ويشعُرُ بعُمقِ الحربِ الرّوحِيّةِ على حياتِهِ، إذ يُوَسوِسُ له إبليسُ على الدّوامِ بأنّهُ لن ينجَحَ كونُهُ غيرَ مُؤَهّلٍ، لماذا؟ لأنّه يرغبُ بخدمَةِ الكلمَةِ ... يُعيدُ له إخفاقاتِ الماضي ويقولُ له إنّ حالتَكَ الصّحّيّةَ نتيجَةُ عَدَمِ رِضَى الرّبِّ عليهِ. مِن هُنا أوصَيتُهُ بأَهْمِيَةِ انتِهارِ إبليسَ على الدّوامِ بِاسمِ الرّبِّ يسوعَ ليَهرُبَ، وَطَلَبِ حمايَةِ الرّبِّ لبيتِهِ بدَمِهِ الطّاهِرِ فلا يبقى لهذه الأرواحِ النّجِسَةِ موطئَ قدَمٍ في حياةِ هذا الإنسانِ.

أهْمِيَةُ وسائِطِ النِّعمَةِ والشُّكرِ للرّبِّ

وسائِطُ النِّعمَةِ مهمّةٌ جدّاً وباستمرارٍ، ولكنْ في الأوقاتِ الصّعبَةِ تأخُذُ أعماقاً جَديدَةً، فمثلاً الصلاةُ في الأوقاتِ الصّعبَةِ ترفَعُنا للسماويّاتِ لنتبادَلَ مشاعِرَ الحّبِّ العجيبِ معَ اللهِ الآبِ ونتحسَّسَ وُقوفَنا أمامَ الحضرَةِ الإلهِيّةِ، نتحسّسُ دِفءَ روحِهِ القُدّوسِ، نستَمِعُ لهمساتِهِ، وتكونُ فرصَةً لإعلانِ جاهِزِيَّتِنا لعمَلِ الرّبِّ مِن خِلالِنا في تلك المرحلَةِ الحَرِجَةِ.

أمّا قراءَةُ الكتابِ المقدّسِ فستأخُذُ عمقاً جديداً ورغبَةً بِسَماعِ صوتِ الرّبِّ، سنتخطّى حاجِزَ الوقتِ لنذهَبَ إلى أعماقٍ جديدَةٍ مِنَ التّفاسيرِ ورغبَةٍ بالعُمقِ، ليس هذا فحسبُ بل ستَتَوَفَّرُ الأشواقُ لِعَيشِ كلمَةِ الإنجيلِ فيجتَمِعُ بعضُهُم معاً لمناقَشَةِ أمورٍ كتابِيّةٍ لغرَضِ الاستزادَةِ وحُضورِ دُروسِ تعليمِ الكتابِ، فنلاحِظُ أنّ اللهَ حَوَّلَ الفترَةَ الصّعبَةَ للصّادِقينَ مع أنفُسِهِم إلى وَرشَةِ عمَلٍ وبِناءٍ روحِيٍّ مميَّزٍ.

أمّا قراءَةُ سِيَرِ القِدّيسينَ فهي إحدَى الوسائِطِ المفيدَةِ لنُمُوِّنا الرّوحِيِّ أثناءَ التّجارِبِ الصَّعبَةِ، حيثُ نقرأُ في كتابِ الوسائِطِ الرّوحِيّةِ لقَدَاسَةِ البابا شنودة الثالث: "لقد سمَحَ اللهُ أن يُقَدِّمَ لنا، هؤلاءِ القِدّيسونَ، أمثِلَةً عالِيَةً في كُلِّ فَضيلَةٍ مِنَ الفضائِلِ بلا استثناءٍ".
وبطريقَةٍ مُذهِلَةٍ حقًا، تَدعو إلى الإعجابِ الشّديدِ بروحانِيّةِ أولئِكَ الأبرارِ، حتى وكأنَّهُم كانوا ملائِكَةً أرضِيّينَ، ارتَفَعُوا فوقَ مُستَوى المادّةِ والْجَسَدِ، وعاشُوا بالرّوحِ معَ الرّبِّ، في حياةِ نصرٍ كاملٍ على كُلِّ حُروبِ العدُوِّ. أو نقولُ إنَّهُم عادوا إلى الصّورَةِ الإلهيّةِ التي خُلِقَ بها الإنسانُ مُنذُ البَدءِ. فحياتُهُم تُشَجِّعُ كُلَّ إنسانٍ أن يَسيَر في النَّهجِ الرّوحِيِّ، بلا خوفٍ، وبِلا تردُّدٍ. بحيثُ نقولُ في ثِقَةٍ حينما نقرَأُ عنهُم: اللهُ قادِرٌ أن يُعينَنَا كما أعانَهُم..
حياةُ البِرِّ إذن ممكِنَةٌ وسهلةٌ ومُتَاحَةٌ لكُلِّ مَن يطلُبُها. ونعمَةُ اللهِ مُستعدَّةٌ أن تعمَلَ في كُلِّ قلبٍ، وترفَعَهُ إلى أسمى درجَةٍ، مهما كانت حالَتُهُ الأولى..
لا تَخلُوا هذهِ الفترَةُ مِن محطّاتِ مُحاسَبَةِ النّفسِ لغَرضِ امتلاءٍ أكثرَ مِن روحِ الرّبِّ. كنتُ اتحدّثُ مع صديقٍ صادفَ موقِفاً صَعباً، ولكِنَّ صِدقَهُ مع ذاتِهِ جعَلَهُ يكتَشِفُ أنّ ردَّةَ فِعلِهِ الأولى تُجاهَ ذلكَ الموقِفِ أظهَرَت كبرياءً وتعالِياً، فتحسّس الموقفَ سريعاً وعادَ لسَلامِهِ.

أما الاعترافٌ والتّناوُلُ فَهُما اغتسالٌ روحِيٌّ عميقٌ يُعطينا نشوَةً روحِيّةً مميَّزَةً تُعيدُ لنا الشّركة معَ الرّبِّ، ولكِنّها تبدَأُ بالاعترافِ معَ النّفسِ، لأنّهُ إن لم تَكُن مُعتَرِفًا في داخِلِ قلبِكَ وفِكرِكَ أنّكَ قد أخطَأتَ، سوفَ لن تعتَرِفَ طبعًا أمامَ اللهِ بخَطَأٍ لا تَرى أنّكَ قد وقعتَ فيه. وأيضًا سوفَ لا تعتَرِفُ أمامَ الكاهِنِ بأنَّكَ قد أخطَأتَ. ولن تذهَبَ إلى أخيكَ وتُصالِحَهُ، ما دُمتَ غيرَ مُقتَنِعٍ في داخِلِكَ بأنّكَ قد أخطَأتَ إليهِ..
إذاً الاعترافُ بالخطأِ أوِ الخطِيّةِ، يبدَأُ داخلَ الإنسانِ أوّلًا، بإحساسٍ داخِلِيٍّ أنّه قد أخطأَ، وباقتناعٍ فِكرِيٍّ بواقِعِ الخطَأِ وتفاصيلِهِ، وبضَرورَةِ الاعترافِ بِه للحُصولِ على المغفِرَةِ، وللوُصولِ إلى المـُصالَحَةِ معَ اللهِ والنّاسِ.

أما الصّومُ فَيَمنَحُنا فرصَةً للارتفاعِ بالرّوحِ وطلَبِ صوتِ الرّبِّ، ففيهِ لا نُعطي الْجَسَدَ كُلَّ ما يَطلُبُهُ مِنَ الطَّعامِ، أو كُلَّ ما يَشتَهيهِ، وبهذا نرتفع فوقَ مُستواهُ، بل نرتَفِعُ فوقَ مُستَوى المادّةِ بصفَةٍ عامّةٍ. وهكذا نُعطي الفرصَةَ للرّوحِ، لكي تأخُذَ مَجالَها، مُتَذَكِّرينَ قولَ الرّبِّ: "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ" (يو 6: 27). وقول الرسول "لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ وَلَكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ" (رو 8: 6).
إنَّ الروحَ تكونُ في حالَةٍ أقوَى في وقتِ الصّومِ.
في الصّومِ تكونُ صلواتُنا أَنقَى، وتأمُّلاتُنا أعمقَ. وتكونُ صِلَتُنا باللهِ أقوَى، وحتى ألحانُنا أيضًا. فرقٌ كبيرٌ بينَ أن نُسَجِّلَ لحنًا من ألحانِ البصخةِ في نفس أسبوعِ الآلامِ، وأن نسجِّلَ نفسَ اللّحنِ في غَيرِ فترَةِ الصّومِ. وليسَ أثَرُ الصّومِ في تقوِيَةِ الرّوحِ قاصرًا على المسيحيّينَ فقط، بل إن الهندوسَ واليوجا والبوذيينَ يَجِدونَ قوّةً للروحِ بتدريباتِ الصّومِ والنُّسكِ، وتَصفُو أرواحُهُم أكثرَ.
اغتصابُ الملكوتِ:
في وقتِ التّجرِبَةِ نشعُرُ أنّنا في حالَةِ دِفاعٍ ضدَّ العدُوِّ الرّوحِيِّ، ولكِن دَعونا نُغيِّرُ طريقَةَ المواجَهَةِ ونتحوّلُ إلى الهجومِ ... ولكن كيفَ نُهاجِمُ؟ الْجَوابُ هو اغتصابُ الملكوتِ. إذ تحدَّثَ الرّبُّ يسوعُ عن يوحنا المعمدان قائِلاً "وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ". متى ١١: ١٢"


نحتاجُ أن نعمَلَ بروحِ إيليا النارِيّةِ التي لا تهدأُ وقتَ التّجارِبِ بل تجعَلُ مِنَ التّجرِبَةِ حافِزاً لتَلمَذَةِ الآخَرينَ، بالهجومِ على مملكَةِ إبليسَ وتحريرِ مَن قَد أسَرَهُم إبليسُ وتوجيهِهِم نحوَ الملكوتِ لغرَضِ اغتِصابِهِ. هنا نرى سببًا آخَرَ لعَظَمةِ يوحنا المعمدانِ، إذ بِتَعليمِهِ ومناداتِهِ بالتّوبَةِ جعلَ الكثيرينَ يجاهِدونَ ويَتوبونَ فيغتَصِبونَ مَلكوتَ السّمواتِ؛ فمنذُ ظُهورِ يوحنا المعمدانِ مُنادِيًا بدعوَةِ التّوبَةِ واليهودَ يَتَزاحمونَ عليهِ ويُقَدّمونَ توبَةً في جِهادٍ وتغصُّبٍ، واعتمدوا على يديهِ وغَيَّروا سِيرَتَهُم ونبَذوا خَطِيَّتَهُم، فبهذا هم يَغتَصِبونَ مَلكوتَ السّمواتِ. هنا نَرَى المعمدانَ قد عَلَّمَ الناسَ مَعنَى الْجِهادِ الصَّحيحِ وهو التّغَصُّبُ حتى يكونَ لهم نصيبٌ في الملكوتِ.


هنا لا بُدَّ مِنَ الإشارَةِ إلى أنَّ الفاعِلَ هُنا هو روحُ إيلِيّا. وَمَن هُوَ روحُ إيلِيّا؟ هو الرّوحُ القُدُسُ. لذلك مثلُ هكذا هجومٍ كاسِحٍ على مملكَةِ الظُّلمَةِ يأتي بإلغاءِ الذّاتِ وعدَمِ الاعتمادِ على جَهدِيَ الشّخصِيِّ بل أفسَحُ كامِلَ المجالِ للرّوحِ القُدُسِ أن يصنَعَ هذه الحملَةَ.
كانَ يوحنا المعمدانُ نهايَةً للعَهدِ القديمِ، وبهِ يبدَأُ العهدُ الْجَديدُ، به انتَهَت رِسالَةُ الأنبياءِ، ومِن يومِ ابتَدَأَ خِدمَتَهُ في تعميدِ التّائبينَ بدأت خِدمَةُ مَلكوتِ السَّمواتِ، لأنَّ هؤلاءِ التّائبينَ صاروا مُستَعِدّينَ لقُبولِ المسيحِ، بل مُستَعِدّينَ أيضًا لمعرفتِهِ. فالتوبَةُ تُنَقّي القلبَ، والقلبُ النقِيُّ يُعايِنُ اللهَ أي يعرِفُ المسيحَ ومَن يقبَلُ المسيحَ مُجاهِدًا غاصِبًا نفسَهُ على تَركِ الخطِيّةِ، أيضًا غاصِبًا نفسَهُ على الالتصاقِ بِاللهِ يكونُ له ملكوتُ السّمواتِ. فملكوتُ السّمواتِ هو عَطِيّةُ اللهِ المجانيّةِ لكِنّها لا تُقَدَّمُ للمُتَهاوِنينَ المـُتراخينَ.
المعمدانُ بواسطةِ إعدادِ القُلوبِ بالتّوبَةِ والعودَةِ إلى اللهِ جعلَ اشتياقَ النّاسِ يَهتاجُ لدُخولِ مَلكوتِ المـَسِيّا الذي أُعلِنَ عنهُ، وهذا صاحَبَهُ جهادٌ وعبادَةٌ وتقوًى وتغَصُّبٌ. كيفَ يتِمُّ هذا الموضوعُ في هذِهِ الأيّامِ؟ يتِمُّ مِن خِلالِ الرّاديو، التِلفازِ، الكتابَةِ، التّواصُلِ الاجتماعِيِّ والحديثِ الفَردِيِّ، وهذِهِ كُلُّها يجب أن تَتِمَّ بإدارَةِ وترتيبِ الروحِ القدُسِ.
أحدُ أسماءِ الرّبِّ هو "رَبُّ الْجُنودِ" وهو دَوماً يَطلُبُ جَيشاً للحَربِ الرّوحِيّةِ، والإنسانُ لا يتحَفَّزُ للحربِ إلّا حينَما يواجَهُ مِن قِبَلِ العدُوِّ، وكلَّما زادَت حِدّةُ مواجَهَةِ العدُوِّ كلَّما زادَ رَدُّ فِعلِنا، لذلِكَ لا تجلِسْ متحيِّراً وقتَ التّجربَةِ الصّعبَةِ بل كما قالَ بولُسُ الرّسولُ:

"الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ. فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا. فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ، وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ. حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ. وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ". افسس ٦: ١١-١٧
أعظَمُ شعورٍ هو نَشوَةُ النّصرِ والرّبُّ يرغَبُ أن يُعطيَكَ دُهنَ فَرَحٍ عِوَضاً عَنِ النّوحِ حينَما ينتَصِرُ بكَ ويظفُرُ بأعدائِكَ كما فَعَلَ على الصّليبِ، لذلك ثَبِّتْ نظَرَكَ على الربِّ، تَقَوَّ بوسائِطِ النّعمَةِ وانطَلِقْ لاغتِصابِ الملكوتِ فتفرَحُ السَّماءُ بخطاةٍ كثيرينَ يتوبونَ مِن خِلالِ عمَلِ الربِّ فيكَ. أصَلّي أن تكونَ حلقَةُ اليومِ سببَ برَكَةٍ لحياتِكُم والكثيرينَ، ودُمتُم في أمجادِ الملكوتِ.