أثمار تليق بالقداسة

Hits: 1851

أثمارٌ تليقُ بالقَدَاسَةِ - بقلم ليث مقادسي

 

هناك أوقاتٌ نحتاجُ أن ننتفِضَ بها مِن أُمورٍ معيّنَةٍ، والأساسُ هنا هو الغَيرَةُ المقَدَّسَةُ. مصدَرُ هذِهِ الغَيرَةِ هو الرّبُّ المُتَّحِدُ بِنَا بروحِهِ القُدّوسِ كونُهُ إلَهاً غَيوراً على شعبِهِ ومقَدَّساتِهِ. بولُسُ الرّسولُ اختَبَرَ هذِهِ الغَيرَةَ مع كنيسَةِ كورنثوس فقال: "فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ".٢ كور ١١: ٢ الغَيرَةُ تنبَعُ مِنَ المَحَبَّةِ كونُ المسيحِ أحبَّ الكنيسَةَ كعريسٍ يَغارُ على عَروسِهِ.

 

متى تتولَّدُ مشاعِرُ الغَيرَةِ؟ حينما يأتي شخصٌ غريبٌ ويحاوِلُ استمالَةَ الزّوجَةِ وَأَخْذَها، هنا الزوجُ الوفِيُّ والمُحِبُّ لزوجَتِهِ سينتفِضُ كالأسَدِ ليُصلِحَ الموضوعَ. نلاحِظُ هنا بولُسَ يَعكِسُ غَيرَةَ المسيحِ على كنيسَتِهِ التي كانت قَدِ ابتَعَدَتْ عن حبيبِها وذَهَبَتْ للمُخادِعِ الأكبَرِ إبليسَ. كما غارَ مار أفرامَ السّريانِيِّ حينَما عاد إلى الرُّها وصارَ يُقاوِمُ الهرطقاتِ. وإذ رأى أحَدَهُم قَد ألَّفَ مائةً وخمسينَ 150 نشيدًا تَحمِلَ عقائِدَ خاطِئَةً يترنَّمُ بها الشّعبُ، ألّفَ هو أيضًا 150 نشيدًا بذاتِ النَّغَمِ معَ استِقامَةِ الإيمانِ وعُذوبَةِ الأسلوبِ وقوّتِهِ، فَحَلَّت مَحَلَّ الأناشيدِ الأولى.

 

الربُّ يسوعُ المسيحُ غارَ على هيكَلِ الرّبِّ حينما: "كَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ﭐرْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ». فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي». يوحنا ٢: ١٣-١٧

في هذا اليومِ نحتاجُ أن ننتَفِضَ وَنَغارَ على كِيانِنا الذي أصبَحَ هيكلاً للرّبِّ مِن أيِّ تهاوُنٍ مع الخَطيئَةِ، كونُ إبليسَ يَرمي علينا يَومِيّاً كَمّياتٍ هائلَةً مِنَ السُّمومِ الرّوحيّةِ المتمثِّلّةِ بمشاعِرِ الحَسَدِ، رغبَةٍ في الانتقامِ، عدمِ مغفِرَةٍ وغيرُها الكثيرُ التي يدعونا الكتابُ أن ننتَفِضَ ونَرميها عنّا بأسرعِ وقتٍ، ولا نَدَعْها تأخُذُ مكاناً في كِيانِنا. يتِمُّ هذا الموضوعُ حينما نستبدِلُ السّيِّءَ بالحَسَنِ بغضَبٍ وغَيرَةٍ مقدّسَةٍ على عدَمِ تلوُّثِ هيكلِ الرّبِّ، استبدالُ كُلِّ همسَةٍ مِنَ العَدُوِّ بهمسَةٍ مِنَ الإنجيلِ المقَدَّسِ، وكُلِّ رغبَةٍ بعمَلٍ سيّءٍ، برغبَةٍ بعمَلِ الخيرِ.

 

هذهِ الغَيرَةُ والانتفاضَةُ تنعَكِسُ إيجابِيّاً على أثمارِ الرّوحِ القُدُسِ مِن خِلالِنا. إذ يتحدَّثُ بولُسُ الرسولُ عن هذا الموضوعِ قائلاً: "اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. 17لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. 18وَلَكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ. 19وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: الَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ 20عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ 21حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً: إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. 22وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ 23وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ. 24وَلَكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. 25إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ الرُّوحِ. 26لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضاً". غلاطية ٥: ١٦-٢٦

 

مَن هُمُ الحَسّاسونَ لهذِهِ الغَيرَةِ المقَدَّسَةِ؟ هُمُ الاشخاصُ الذين تذوَّقُوا محبّةَ اللهِ بشكلٍ عميقٍ وباتوا شُرَكاءَ معَهُ بالهَدَفِ والعمَلِ، فباتَ شُغلُهُمُ الشّاغِلُ هو تعظُّمُ عَمَلِ الرّبِّ مِن خِلالِهِم، أُولَئِكَ الذينَ صَلَبوا أنفُسَهُم مع المسيحِ فباتوا مُدرِكينَ أنَّ المسيحَ هو الذي يَحيا فيهِم وكُلَّ دورِهِم هو أن يَخدِمُوا ذلكَ الإلَهَ السّاكِنَ في كِيانِهِم مِن خلالِ تنظيفِ ذلك الكِيانِ مِن كُلِّ ما لا يَليقُ بقداسَتِهِ.

 

تَذَكَّر مِقدارَنا بالمسيحِ يسوعَ

عَمَلُ الرّوحِ القُدُسِ يبدَأُ بإعادَةِ تشكيلِنا لنكونَ مُسَحاءَ آخَرينَ، ذلك المسيحُ الْجَديدُ يُنتِجُ ثِماراً عاليةَ الْجَودَةِ بنَفسِ نوعِيّةِ أثمارِ المسيحِ. واحِدَةٌ مِنَ الأمورِ التي يُعادُ تَشكيلُها وهِيَ تَذكُرُ مِقدارَنا بالمسيحِ بشَكلٍ تلقائِيٍّ، أي الموضوعُ سيكونُ في فِكري ولن أنساهُ أبداً وكأنّهُ قَدِ انحَفَرَ في ذاكرتي. هذا الموضوعُ لن يتِمَّ مِن دونِ تدَخُّلِ الروحِ القدسِ، هو كالكومبيوتر الذي توجَدُ فيه معلوماتٌ قد تم إدخالُها له مِنَ المُصَنِّعِ، وهناك معلوماتٌ من المستخدِمِ، فَمَعلوماتُ المُصَنِّعِ لا يُمكِنُ مَسحُها كونُها متجذِّرَةً فيه ولا يُمكِنُ مَسحُها.

 

أعرِفُ خادِماً للرّبِّ يُجَسِّدُ وَداعَةَ المسيحِ في كُلِّ تَصَرّفاتِهِ، فكلُّ مَن يلتَقيهِ يَلمَسُ فيه شيئاً مُغايِراً لِلكثيرينَ، حينما أُكَلِّمُهُ وأتطَرَّقُ لأيِّ موقِفٍ حياتِيٍّ، أُلاحِظُهُ يُعيدُ صِياغَةَ ذلك الطّرحِ وكأنّهُ صادِرٌ مِنَ الرّبِّ مِن خِلالِنا وهو يُفَعِّلُ الموضوعَ عَفَوِيًّا، كونُ مَركَزِهِ بالمسيحِ صارَ شيئاً بَديهيّاً لا يُمكِنُهُ نِسيانُهُ.

 

الذي يُؤثِّرُ سَلباً على تلكَ الذّاكِرَةِ ويضَعُ غشاوَةً عليها هو الأمورُ التي لا تَزالُ عالقَةً في كِيانِنا، فأحياناً ينفَجِرُ الإنسانُ في موقِفٍ معيّنٍ ويتصرّفُ كشخصٍ عالمِيٍّ كأنْ يسقُطَ في فَخِّ العَصَبيّةِ، الإدانَةِ، عدَمِ الغُفرانِ وغَيرِها، في كثيرٍ من الأحيانِ وَاعتِماداً على مَدَى النّضوجِ الرّوحِيِّ نُلاحِظُ الشّخصَ يعودُ لذاكرَتِهِ سريعاً ويعتَذِرُ مِنَ المُقابِلِ بعدَ أن يتَذَكَّرَ مِقدارَهُ بالمسيحِ.

 

مِقدارُنا بالمسيحِ يشمَلُ السُّلطانَ الذي أعطاهُ إيّانا، كونُ تذَكُّرِ ذلكَ السّلطانِ على الدّوامِ واستخدامِهِ سيُنَشِّطُ ثمرَنا الرّوحِيَّ بغزارَةٍ، مِن هنا يتعَيَّنُ على خادِمِ الرّبِّ الأمينِ الحِرصَ على إماتَةِ كُلِّ عاداتِ إنسانِهِ القَديمِ كي لا تَضَعَ غَشاوَةً على ذاكرَتِهِ وتسقُطَ بينَ الحينِ والآخَرِ، وهذا يتطلَّبُ خضوعاً دائِماً لتدريباتِ الرّبِّ، وتطبيقَ كلمَةِ الإنجيلِ المُقَدَّسِ على كُلِّ موقِفٍ في حَياتِنا.

 

تذرِيَةُ الرّوحِ القُدُسِ لتَطويرِ الثَّمَرِ

 

الروحُ القُدُسُ يُطَهِّرُنا مِن نَجاسَةِ الخَطِيّةِ ويجعَلُنا ننمو في القداسَةِ والمعرِفَةِ وجميعِ الفضائِلِ الرّوحيّةِ، إذ يقولُ بولسُ الرّسولُ: «اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا» (1كو 6: 11). وَيُتَمِّمُ الرّوحُ هذا العمَلَ فينا بسيطَرَتِهِ على عواطِفِنا، ومرافَقَتِه لنا على الدّوامِ، وإرشادِنا (رو 8: 1-15) حتّى تَصيرَ أجسادُنا هياكِلَ الرّوحِ القُدُسِ، ويَحِلَّ روحُ المُجدِ واللهِ علينا (1بط 4: 14) وبِذلِكَ يُقَوّينا في الدّاخِلِ ويُكَمِّلُنا ويُنَمّي فينا أثمارَهُ المبارَكَةَ (غل 5: 22، 23 وأف 5: 18-21).

 

 

وقد سُمِّيَ «روحُ النِّعمَةِ» إشارةً لعملِهِ في قُلوبِنا (عب 10: 29). و«روحُ القَداسَةِ» لأنّهُ يُقَدِّسُنا (رو 1: 4). و«المُعَزّي» لأنّه يُعَزّينا في أحزانِنا (يو 14: 26). و«روحُ الموعِدِ القُدّوسِ» لأنّهُ هو الذي يُبَلِّغُ مواعيدَ اللهِ إلى قُلوبِنا، وهو أيضًا عربونُ إنجازِها (أف 1: 13). وسُمِّيَ أيضًا «روحُ الرّجاءِ» (رو 15: 13) ونتوقّعُ الرّجاءَ المُبارَكَ بالصَّبرِ والثَّباتِ حَسَبَ قولِ بولُسَ «فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرٍّ» (غل 5:5).

 

كما تحدّثَ إشعياءُ النبِيُّ عن دَورِ الرّوحِ القُدُسِ في تطويرِ ثَمَرِنا قائلا: "إِذَا غَسَلَ السَّيِّدُ قَذَرَ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ وَنَقَّى دَمَ أُورُشَلِيمَ مِنْ وَسَطِهَا بِرُوحِ الْقَضَاءِ وَبِرُوحِ الإِحْرَاقِ". إشعياء ٤:٤

 

هذا الغسلُ أَوِ التّطهيرُ يتَحَقَّقُ "بِروحِ القَضاءِ وروحِ الإحراقِ"؛ أمّا روحُ القضاءِ فتحقَّقَ بِرَفعِهِ على الصّليبِ حامِلًا ثمَنَ خطايانا في جَسَدِهِ، مُتَمِّمًا العدلَ الإلهِيَّ مِن جِهَتِنا فيهِ. وأما روحُ الإحراقِ، فيَعني ما سَبقَ فأعلنَتْهُ الشّريعَةُ في سِفرِ اللّاويينَ عَنِ "المُحرَقَةِ" حيثُ تُحرَقُ الذّبيحَةُ تمامًا إشارَةً إلى الحُبِّ الكامِلِ. وربَّما قَصَدَ بِروحِ الإحراقِ أيضًا الروحَ القدسَ النّارِيَّ الذي حَلَّ على الكَنيسَةِ لتقديسِها وغَسَلَ كُلَّ عُضوٍ فيها.

 

لماذا اعتُبِرَ عمَلُ الرّوحِ القدُسِ في قُلوبِ البشرِ مِن أسرارِ المَسِيحيَّةِ؟

* اعتُبر كذلكَ لسبَبَينِ:

(1) لأنَّ عملَهُ الفعّالَ في البَشَرِ يتِمُّ بطريقَةٍ لا يُمكِنُنا أن نُدرِكَها بعُقولِنا. «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ» (يو 3: 8). فكما أننا لا نَقدِرُ أن نَرَى الهواءَ، وإنّما نستَدِلُّ على وُجودِهِ مِن تأثيرِهِ ونتائِجِ قوّتِهِ، كذلك لا نَقدِرُ أن نَرَى الروحَ القُدُسَ، ولكِنْ نستَدِلُّ على وُجودِهِ مِن نتائِجِهِ وثِمارِهِ في تَغييرِ أفكارِنا وإصلاحِ سيرَتِنا. ويُشبِهُ عملُ الرّوحِ فينا تأثيرَ العَقلِ في الْجَسَدِ، فالعقلُ يُسَيطِرُ على الْجَسَدِ ويُحَرِّكُهُ أو يستخدِمُهُ كما يشاءُ بطريقَةٍ لا نقدِرُ أن نُدرِكَها. ويَصدُقُ هذا أيضًا على تأثيرِ أفكارِ إنسانٍ على عقلِ إنسانٍ آخَرَ وحَثِّهِ وإقناعِهِ بقُوّةٍ فَعّالَةٍ.

 

فكما أننا عاجزونَ عن إدراكِ هذه الأعمالِ، كذلك نحنُ عاجِزونَ عن إدراكِ عملِ الرّوحِ القُدسِ فينا وتأثيرِهِ العظيمِ وتحويلِهِ أفكارَنا متى شاءَ وكيفَما شاءَ، وإظهارِهِ الحَقَّ لنا وإقناعِنا بِه وحَثِّنا على اتّباعِهِ، وإذا كانَ في طاقَةِ الشّيطانِ أن يَحُثَّنا على الشّرِّ ويُغوينا ويُلقي تجارِبَ قوِيّةً في قُلوبِنا، أ فَلَيسَ في طاقَةِ اللهِ أن يُرشِدَنا إلى الحَقِّ ويَحُثَّنا على عَمَلِ الخيرِ والصّلاحِ بواسطَةِ روحِهِ القُدّوسِ؟ أمّا عَجزُ أكثَرِ البَشَرِ عن تعيينِ وقتِ تجديدِهِم وعدَمِ شُعورِهِم بحدوثِ تلكَ الوِلادَةِ الرّوحِيّةِ فليسَ دليلًا على عَدَمِ حُدوثِهِ، ولو أنَّ المولودَ ثانيَةً يَقدِرُ أن يَتَأكَّدَ من ذلك مِما يَراهُ مِن أثمارِ الحَياةِ الْجَديدَةِ فيه، وَمِن تقدُّمِهِ في مَعرِفَةِ اللهِ ومحَبَّتِهِ، ومِنَ الطَّهارَةِ والقُدرَةِ على مُحارَبَةِ الخَطِيَّةِ وغَلَبَتِها. وحالَةُ الإنسانِ الْجَسَدِيَّةِ تُشبِهُ ذلكَ، فهو لا يَشعُرُ بتكوينِ جَسَدِه ولا بِولادَتِهِ، ولكِنَّهُ يتأكّدُ أنّهُ حَيٌّ جَسَدِيًّا مِن علاماتِ الحياةِ الظّاهِرَةِ فيهِ، وَمِن شُعورِهِ بشخصِيَّتِهِ بينَ البَشَرِ مما يَحصَلُ عليهِ بالتّدريجِ بعدَ وِلادَتِهِ. فالرّوحُ القُدُسُ يُنيرُ عُقولَنا ويُرشِدُنا ويَحُثُّنا ويَبنينا في المَعرِفَةِ والقَدَاسَةِ بِطريقَةٍ لا نَقدِرُ أن نُدرِكَها مُطلَقًا.

يقتَرِنُ تأثيرُهُ الإلهِيُّ ويشتَرِكُ مع عَمَلِ الإرادَةِ البشريّةِ الحُرَّةِ بطريقَةٍ تفوقُ إدراكَنا. فالروحُ القدُسُ يعمَلُ ما يشاءُ في البَشَرِ ويؤثِّرُ فيهِم إلى أن يَختاروا ويعمَلُوا بمشيئَتِهِمِ الحُرّةِ كما يُريدُ هو. وهو لا يُجبِرُهُم أن يَعمَلوا ضِدَّ إرادَتِهم، بل بتأثيرِهِ اللّطيفِ يَجعَلُهُم يُريدونَ ويَختارونَ نفسَ ما يُريدُ هو، بطريقَةٍ لا تُعارِضُ حرّيّتَهُمُ التّامَّةَ، ولا تُلاشي مسؤوليّتَهُم في كُلِّ أعمالِهِم.

 

 وإذا قيلَ إنَّ الإنسانَ في هذِهِ الحالَةِ لا يكونُ مسؤولًا عن إتمامِ واجباتِهِ الدّينيّةِ، أَجَبنا: إنَّ اللهَ يطلُبُ مِنّا أن نتَمِّمَ باجتهادِنا الذّاتِيِّ نفسَ الواجباتِ التي نحتاجُ إلى مساعدَةِ الروحِ القدسِ لإتمامِها، فهو يأمُرُ الإنسانَ أن يتوبَ ويؤمِنَ ويعيشَ عيشَةً حياةً صالِحَةً، ويتحَلّى بالفضائِلِ الدّينيّةِ والأخلاقيّةِ، مع أنّه لا يقدِرُ على ذلك إلا بِمَعونَةِ الرّوحِ القُدُسِ. ولا شكّ أن في ذلك سِرًّا عظيمًا نعجَزُ عن إدراكِهِ، فليس في طاقَتِنا أن نوضِحَ اقترانَ فِعلِ الرّوح ِبفعلِ الإرادَةِ البشريّةِ، وإن كنا متأكِّدينَ مِن وُجودِهِما ولُزومِهِما، ولُزومِ الاستنادِ على مساعَدَةِ الرّوحِ القُدُسِ لنَقدِرَ أن نُتَمِّمَ المَطلوبَ مِنّا. مع مَعرِفَتِنا أنَّ ذلكَ لا يُخَلِّصُنا مِن مَسؤوليَّتِنا أمامَ اللهِ.

 

وقد حاولَ بَعضُهُم التّوفيقَ بينَ حُرّيّةِ الإنسانِ ومسؤوليّتِهِ ولُزومِ فِعلِ الرّوحِ القدسِ فيهِ، ولكنَّ اجتهادَهُم لم يَفِ بالمَقصودِ. ويجِبُ أن نتحَرَّزَ مِنَ الاعتقادِ بقُدرَةِ الإنسانِ مِن دونِ مَعونَةِ اللهِ، ومِنَ الاعتقادِ بِضَعفِ الإنسانِ إلى الحَدِّ الذي يَرفَعُ عنهُ التّكليفَ والاِلتِزامَ. ويُعَلِّمُنا الكتابُ المُقدسُ والعقلُ السّليمُ أنَّ الإنسانَ يجبُ أن يَجتَهِدَ في إتمامِ أوامِرِ اللهِ، ويشعُرَ باحتياجِهِ في ذلكَ لمُساعَدَةِ الرّوحِ، ويتيَقَّنَ أنّهُ ينالُها بالطَّلَبِ مِنهُ بِلَجاجَةٍ، لأنَّ الذي أمَرَنا بالإيمانِ والعمَلِ قادرٌ ومستعدٌ على الدّوامِ أن يُعِينَ ضَعَفاتِنا.

 

هذا من جِهَتِهِ، أمّا مِن جِهَتِنا فيجِبُ أن نُوَفِّرَ الإرادَةَ لطَردِ المُلَوِّثاتِ وهذا الموضوعُ يتِمُّ حينَما أَنظُرُ المسيحَ يومِيّاً كما بِمرآةٍ وأشتهي التَّشَبُّهَ بهِ. أشجِّعُكَ عزيزي المستمِعَ على قراءَةِ سيرَةِ القِدّيسينَ الذين عاشُوا حياةَ التّذرِيَةِ وطَردِ وساوِسِ إبليسَ وأوساخَهُ الرّوحِيّةَ والتّشَبُّهِ بِهِم وطَلَبِ صلاتِهم مِن أجلِنا مع العذراءِ البتولِ مريَمَ أمِّ النّورِ كي نحصَلَ على العونِ في هذا الْجِهادِ الرّوحِيِّ الممَيَّزِ، ودُمتُم في أمجادِ المَلكوتِ

 

لتحميل نسخة المقال يرجى الضغط هنا