ادارة الموقع: ليث مقادسي | التعليم اللاهوتي مرتكز على الكتاب المقدس وتفاسير اباء الكنيسة الارثوذكسية
Hits: 1429
متى يعجزُ العقلُ عن مساعَدَتِنا في الإيمانْ - بقلم ليث مقادسي
اللهُ خلقَ العقلَ الإنسانِيْ ليُساعِدَنا على الفَهمِ والتَّحليلْ، فهُوَ ينمو بِالمعرفَةِ كَنُمُوِّ الْجَسَدِ مِن خلالِ الطّعامِ ونُمُوِّ الروحِ مِن خِلالِ كلمَةِ الإنجيلِ المُقَدّسْ؛ لذلكَ، فالإنسانُ الذي يطالعُ كثيرًا يُصبِحُ مُتَحَدِّثًا وكاتِبًا نَشِطًا. والعقلُ كلمةٌ شاملةٌ ذاتَ مفهومٍ أوسَعَ مِنَ الدَّماغِ الموجودِ في الرأسْ، إلا أنّهُ تجاوزاً يمكنُ القولُ بأنَّ ثَمَّةَ صِلَةً وثيقةً بينَ العقلِ والدَّماغْ، من حيثُ احْتِواءِ الدّماغِ على المراكِزِ التي تتحكمُ في العملياتِ الذِّهنِيَّةِ والانفعاليةِ والحِسّيةِ في الإنسانْ؛ ومن ثَمَّ يمكنُ اختزالُ حَديثِنا عنِ العقلِ البشريْ بشكلٍ عامْ إلى حديثٍ عن الدَّماغِ في جانِبِهِ التّشريحي والوظيفيْ.
ويعتقِدُ الكثيرُ منَ العلماء، أنَّ للعقلِ البشري وظائفَ غيرَ موجودَةٍ في الحَيَوانْ؛ إذ يقومُ بترتيبِ المعلوماتِ وربطِ بعضِها ببعضٍ، لِيُكَوّنَ مِنها أفكاراً؛ كما أنه يُعَدُّ مكانَ الابتكارِ والإبداعِ والأحلامْ؛ فهو يُمكّنُ الإنسانَ مِنَ التمييزِ بينَ الخطأِ والصوابْ، وبينَ ما هو مَنطِقِيٌّ وما هو غيرُ مَنطِقِيْ، كما أنّهُ مَخزَنٌ للمعلوماتِ والذاكِرَة، وهوَ المسؤولُ عن سُلوكِ الإنسانِ ورَدِّ فِعلِهِ في السّرّاءِ والضّرّاءْ.
مثلَ الكومبيوتر، فإنَّ العقلَ البشرِيَّ يحتاجُ إلى معلوماتٍ مُثَبَّتَة قد تمَّ إدخالُها لَهُ فيقومُ بِتَرتيبِها وربطِها عندَ الحاجَة، أمّا إذا طلبنا مِنَ الكومبيوتر إجراءَ عمليّةٍ لا يوجد لها أساسٌ في ذاكرتِه فإنّه سيعجَزُ عن تقديم حَلْ.
كونُ الإيمانِ لا يتعامَلُ مع الواقِعِ بَل يَصنَعُ المستقبلَ، فإنَّهُ سيكونُ مخالِفًا للواقِعِ كَحالَةِ إبراهيمَ الذي كَلَّمَهُ اللهُ بأنَّ زوجَتَهُ سَتَلِدُ لَهُ ابْنًا وهيَ عاقِرٌ وقد شاخَت. في حياتِنا الدُّنيَوِيَّةِ لا نَقتَني شيئًا إلا حينَما نُشاهِدُه وَنُكَوِّنُ فكرَةً عنهُ، بينما في الأمورِ الرّوحيَّةِ فإنّنَا نَقتَني بالإيمانِ ومِن ثَمَّ نَنظُرُ النتائِجَ. حتّى اليومِ لا يَزالُ الكثيرونَ يُشَكِّكونَ في قِصَصِ الكتابِ المُقَدَّسِ كَشَقِّ البَحرِ أو إنزالِ المَنِّ مِنَ السَّماءِ وَيَعتَبرونَها أساطيرَ خَيالِيَّةً لانَّها لا تتماشى مع العَقلِ البَشَرِي، بينما غايَةُ اللهِ من سَردِ هذِهِ القِصَصِ هو تَحفيزُنا على اختبارِ قُوّاتٍ مُشابِهَةٍ في حياتِنا الشّخصِيَّة فنخرُجُ مِن مَرحَلَةِ الإيمانِ إلى الحُصولِ على ما آمَنَّا بِهِ.
ولكنْ حينما طَلبَ اللهُ من إبراهيمَ أن يُقَدّمَ ابنَهُ ذبيحةً نجدُ أنَّ العقلَ ساعَدَه في الإيمانِ لأنه جلسَ وفكّرَ بأنّ اللهَ قادرٌ على إقامةِ الأمواتِ وبالتالي سيقيمُ ابْنَهُ لاحقًا، فكان الموضوعُ يسهَلُ تصديقُهُ. لذلك، العقلُ مُهِمٌّ جدًّا في حياتِنا الروحيَّةِ وكُلّما تَمَعَّنَّا في الكتابِ المقدسِ كلّما نَمَى عقلُنا وزادَ من خَزينِنَا الروحِي فنستفيدَ منهُ وقتَ الحاجَة.. نقرأُ عن إيليّا النبِي بأنّه فعلَ أشياءَ لم يفعلْها أنبياءٌ قبلَه كثِقَتِهِ العاليةِ بنَفسِهِ حينَما قالَ "حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ، إِنَّهُ لاَ يَكُونُ طَلٌّ وَلاَ مَطَرٌ فِي هَذِهِ السِّنِينَ إِلاَّ عِنْدَ قَوْلِي" ١ملوك ١٧: ١. من أين لكَ هذِهِ الثّقَةُ يا إيليا؟ مِنْ تَشَبُّعِ عقلِهِ بأنّ اللهَ قادِرٌ على صُنعِ كلِّ شيءٍ من خِلالِ عبيدِهِ الأنبياءِ فنلاحِظُ أنَّ عقلَهُ ساعَدَهُ على الإيمانِ والعملِ
ولكنْ ما هي أسبابُ العَجزِ؟
ضَعفُ الذاكرةِ والتَّسَرُّعُ - نقرأُ عن زَكَرِيّا أنه شَكَّكَ في قولِ جَبرائيلَ الملاكِ لَهُ بأنّ زوجَتَهُ ستَحبَلُ وهي عاقِرٌ وسبَبُ التَّشكيكِ في اعْتقادِي هو ضَعفُ الذّاكرَة، لأنّ مركزَهُ الروحِيَّ هَيّأَ لَهُ فُرصَةَ التَّعَرّفِ على تَعامُلاتِ اللهِ السّابقَةِ مع مِثلِ حالَتِهِ وبالتحديدِ إبراهيمَ وسارَةَ، صحيحٌ أنّ الموقفَ مفاجِئٌ ولم يَستَطِعْ عقلُهُ التّعامُلَ مَعَهُ بسُرعَة، ولكنَّه لو أخَذَ بعضَ الوقتِ وتأمّلَ بأحداثِ الكتابِ المقدسْ فإنّه كانَ سيتذكّر قصّةَ إبراهيمَ بسرعةٍ كونُها في بدايَةِ الكتابِ المقدّسْ. كذلك هو الحالُ معنا، فحينَ يفاجِئُنا صاحبُ العملِ المِثالي بترقِيَةٍ وَظيفيَة كُنّا نحلُمُ بها في السابِقِ، فإنّ أولَ رَدَّةِ فعلٍ هو التّشكيكُ بالخَبَر، بينما صاحِبُ الذّاكِرَةِ الْجَيّدَة سَيَجلِسُ ويتذكّرُ تعاملاتِ صاحِبِ العَمَلِ السّابقَةِ معه وزملاءَه ليتقبّلَ الخبَرَ بفرَحٍ واطمئنانْ.
تدهورُ الحالةِ النَفسِيّةِ مِن جَرّاءِ تراكُمِ المشاكِل - نقرأُ في سِفرِ العَدَدْ، الإصحاحِ العشرينْ، عن سُقوطِ موسى بِما دعاها الربُّ "خيانَةً" كونُ الموقفِ كانَ صعبًا على أيِّ إنسانٍ، فاختُهُ مريمُ كانت قد ماتَتْ ونفسَهُ بعدُ حزينَةً خاصَمَهُ الشّعبُ لعدَمِ وُجودِ ماءٍ للشّربْ، ففرَّطَ موسى وضَرَبَ الصّخرةَ بعصاهُ بينما اللهُ كانَ قد قال لَهُ أن يُكلِّمَهَا فقط وهي تُخرِجُ الماءَ.
القلقُ نتيجةَ عدمِ قُدرتي على الحّلْ - خلالَ أحداثِ صَلبِ الرَّبِّ يَسُوعَ نقرأُ عن بُطرُسَ أنّهُ أنكرَ الربَّ ثلاثَ مراتٍ، ولكنْ لماذا تمّ اخْتيارُ هذا القرارْ، الجوابُ هو القلقُ الشّديدُ وعدَمُ القدرَةِ على الحّلْ. في مرّةٍ من المراتِ طلبَ مِنّي مديري في العملِ أنْ أكذِبَ لِدَعمِ كَذِبِهِ على اِحدَى الشركاتِ بِخُصوصِ فترَةِ عَمَلي معَهُ؛ الموقفُ كان مُحرِجًا بالنسبةِ لي، فإنّي أرفُضُ تمامًا الكَذِبَ وبِنَفسِ الوقتِ لا أرغَبُ بإحراجِ مُديري؛ فما كان مِنّي إلّا الصلاةُ وطلبُ تدخُّلِ الله.. فتدخّلَ الربُّ بشَكلٍ مُعجِزِيٍّ وهو مَنعُ تلكَ الشّركَةِ مِنَ الاتّصال بي على الرّغمِ من حاجتِهِمِ الماسَّةِ لي كَي أُنجِزَ لهُم مُهِمَّةً هندَسِيَّة. لذلك علينا بطلَبِ العونِ من أبينا السّماوِيُّ حينما تكونُ الأجواءُ مُلَبَّدَةً بالقلق وعَدَمِ القُدرَةِ على إيجادِ مَخرَجٍ. الجميلُ هو تعامُلُ الربِّ السريعُ مع هكذا مواقِفٍ.
سوءُ واقِعِ الحالْ - نقرأُ عن حَبَقّوقَ أنّهُ كانَ يائِسًا من واقِعِ الحالِ وهو يَنظُرُ تَعَظُّمَ أعدائِهِ وقُوَّتَهُم، كذلك الحالُ معَ جِدعونَ وداوُدَ وغيرِهِم مِنَ الذينَ كانوا يعيشونَ في ضِيقٍ وألَمٍ وحَسرَةٍ وهُم يُصَلّونَ والربُّ يَتَأنَّى، فعقلُ بَعضِهِم باتَ يميلُ للتّشكيكِ بأعمالِ الربِّ السّابِقَةِ كَجِدعونَ، كذلكَ الكثيرونَ في هذا اليومِ الذينَ يُشكّكونَ بالعَهدِ القديمِ لأسبابٍ مُتَعَدِّدَةٍ أهَمُّها أنهُمْ يشاهِدونَ العالَمَ في تَدَهوُرٍ واللهُ لا يَصنَعُ لهُم مُعجِزَةً كالّتي صَنَعها في العهدِ القديمْ.
لذلك تعاملُ حَبَقّوقَ كانَ مِثالِيًّا إذْ هُوَ طلَبَ صوتَ الربِّ القادِرِ على تَعزِيَتِنا وإرشادِنا للمرحلَةِ اللّاحقَة.
الخوفُ مِنْ قُوةِ العدُوْ - حينَما أرسلَ موسَى بأمرٍ منَ الربِّ اثْنَيْ عَشَرَ جاسوسًا ليتجَسّسوا أرضَ الموعِدِ كانَ احَدَ اخْتِباراتِ البَريّةِ وهو مُشاهَدَةُ شيءٍ والإيمانُ بِخِلافِهِ، فَنجحَ اثْنانِ فقطْ والعَشرَةُ المتبقّونَ قالوا "لانَقْدِرْ أَنْ نَصْعَدَ إِلى الشَّعْبِ لأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَّا" عدد ١٣: ٣١، فنلاحظُ العقلَ يَعجَزُ مرّةً أخرَى عن مُساعَدَةِ الأغلبِيّةِ كونُهُ رَكَّزَ على قوّةِ العَدُوِّ ولمْ يَتَذَكَّرْ قوةَ اللهِ التي أخرَجَتْهُ مِن أرضِ مِصرَ. هل تمرُّ بِنَفسِ الموقِفِ في البلَدِ الذي تسكُنُهُ حيثُ التغييرُ باتَ مُستحيلاً وأنّ الشّرَّ هو المُتَسلِّطُ؟ لا تَنظُرْ لِحَجْمِ المُشكِلَةِ بَل ركِّزْ على الإلَهِ الذي لا يقِفُ أمامَهُ شيءٌ.