عبرانيين 12: 18-21
لأَنَّكُمْ لَمْ تَأْتُوا إِلَى جَبَل مَلْمُوسٍ مُضْطَرِمٍ بِالنَّارِ، وَإِلَى ضَبَابٍ وَظَلاَمٍ وَزَوْبَعَةٍ، وَهُتَافِ بُوق وَصَوْتِ كَلِمَاتٍ، اسْتَعْفَى الَّذِينَ سَمِعُوهُ مِنْ أَنْ تُزَادَ لَهُمْ كَلِمَةٌ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَمِلُوا مَا أُمِرَ بِهِ: «وَإِنْ مَسَّتِ الْجَبَلَ بَهِيمَةٌ، تُرْجَمُ أَوْ تُرْمَى بِسَهْمٍ». وَكَانَ الْمَنْظَرُ هكَذَا مُخِيفًا حَتَّى قَالَ مُوسَى:«أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ»
يقارن بولس الرسول هنا بين الرعب الذي حدث في استعلان الله لنفسه في العهد القديم والمناظر السماوية التي يحياها المؤمنون الآن في المسيحية والله حين أراد أن يستعلن نفسه ليفهم الشعب على قدر إمكانياتهم استخدم أشياء من الطبيعة الملموسة. فماذا استخدم الله؟
جبل ملموس = فأعظم وأضخم كيان على الأرض، ثابت راسخ لا يهتز هو الجبل لكنه مازال ملموسا أي يمكن لمسه باليد. أما الله فلا يمكن لمسه باليد.
نار= أعظم وأخطر قوة في الطبيعة قادرة على الإفناء "وإلهنا نار آكلة".
ضباب = يشير لأن الحقائق السماوية مخفاة مستترة كأنها وراء ضباب.
ظَلاَمٍ = هنا نرى الحرمان من الرؤية تمامًا. العهد القديم في ظلال وغموض ورموز. والله قال عنه إشعياء أنه "إله محتجب" (إش45: 15).
زَوْبَعَةٍ = حركات الطبيعة التي تعبر عن العنف والشدة التي تجرف أمامها كل شيء، وهذا يعبر عن غضب الله وتأديبه وعقابه الرهيب للعصاة.
البوق = يعبر عن شدة وعلو صوت الله، وإنذاراته كما سنسمع في اليوم الأخير إعدادا لمجيء الملك السماوي.
والمقارنة هنا وضحت في طريقة استلام الناموس في العهد القديم على يدي موسى على جبل سيناء، وبين تقبل الكلمة الإلهي ذاته في العهد الجديد والذي يتم في هدوء يؤكد بركات العهد الجديد وسمو العهد الجديد. لذلك عليكم أيها العبرانيين أن تحذروا لئلا تخسروا بركات العهد الجديد. ففي العهد القديم نجد علاقة مرعبة مع الله وغامضة بل نجد الشعب أسفل الجبل، فالناموس لا يستطيع أن يرفعهم إلى فوق للحياة السماوية بل همْ لَمْ يَحْتَمِلُوا = خافوا بسبب الظواهر الطبيعية المرعبة، فاسْتَعْفَوا = أي طلبوا إعفائهم من أن يكلمهم الله بهذا الأسلوب المرعب مرة أخرى.
لماذا طلبوا إعفاءهم؟
حين أراد الله أن يعرف الشعب أن موسى يكلم الله، وأن ما يقوله موسى هو وصايا الله، فيؤمنوا بأقوال موسى للأبد ويطيعوا أقواله (خر9:19) . أمر الله موسى أن يُعِّدْ الشعب أي يتطهروا (خر10:19-13). ولما نزل الرب على جبل سيناء دخن الجبل وارتجف (خر14:19-19). ومن أجل هذه المظاهر المخيفة، كلم الشعب موسى وهم مرتعبون أن يكلم هو الله، ثم يكلم موسى الشعب بما كلمه به الله (خر19:20) وذلك حتى لا يموتوا . بل نسمع هنا أن موسى نفسه ارتعب.
لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَمِلُوا مَا أُمِرَ بِهِ = حينما سمعوا الوصايا وهم في هذا الرعب أدركوا أن مخالفتها نتيجته ستكون مرعبة فاستعفوا. وإذ قارنوا ما يطالبهم به الله من نقاوة، وهم كانوا يُدركون خطاياهم ونجاساتهم ارتعبوا من أن تحرقهم هذه النيران التي يرونها أو ينقض عليهم هذا الجبل، فطلبوا أن لا يكلمهم الله ثانية مباشرة. بل أن ينقل لهم موسى ما يقوله له الله.
والله لم يغضب منهم أنهم استعفوا بل قال "أنهم أحسنوا في ما تكلموا" (تث17:18) أي أن لهم حق فلقد كان المنظر مخيفا فعلا. ولكن نسمع هنا أن الله سيكلمهم بطريقة أخرى هي عن طريق نبي يقيمه الله… (تث18:18، 19) وهذه الآيات نبوة عن السيد المسيح الذي اختفى في جسده مجد اللاهوت فصار يكلم الشعب ويعلمهم بدون مناظر مخيفة.
وبمقارنة هذا مع آية 25 نفهم أن قوله "لأنه إن كان أولئك لم ينجوا إذ استعفوا" أنهم لم ينجوا ليس لأنهم استعفوا، فموسى نفسه ارتعب مما حدث، والله نفسه أعطاهم العذر، لكنهم لم ينجوا لأنهم استهانوا أو رفضوا أو لم ينفذوا كلمة الله ووصاياه ولم يؤمنوا بها بعد أن رأوا ما رأوه وسمعوا ما سمعوه . وإذ قارنوا ما يطالبهم به الله من نقاوة، وهم كانوا يُدركون خطاياهم ونجاساتهم ارتعبوا من أن تحرقهم هذه النيران التي يرونها أو ينقض عليهم هذا الجبل، فطلبوا أن لا يكلمهم الله ثانية مباشرة. بل أن ينقل لهم موسى ما يقوله له الله.
ولماذا ارتعب موسى
موسى كان يكلم الله كل يوم "ويكلم الرب موسى وجها لوجه كما يكلم الرجل صاحبه" (خر33: 11). هذا نفهمه مما حدث مع إيليا في سيناء. فلقد حدثت نفس الظواهر مع إيليا. وإيليا الذي تعود على سماع صوت الله عرف أن هذا ليس صوت الله، وحينما سمع الصوت الهادئ الخفيف لف وجهه لأنه عرف أن هذا الصوت هو صوت الله الذي اعتاد عليه. ولماذا حدث هذا مع إيليا أولًا ؟ لأن الله كان غير موافق على ما حدث من إيليا إذ خاف من إيزابل وهرب. وكان داخله ثورة، والله يصلح الداخل قبل أن يتكلم. فكيف يسمع إيليا صوت الله الهامس المنخفض وهو في حالة الثورة الداخلية .
أما موسى فلقد تعود على صوت الله الهادئ فالله يكلمه كما يكلم الرجل صاحبه، لكن حين تكلم الله مع الشعب وحدث ما حدث فوجئ موسى بما لم يكن معتادا عليه. لكن هذا لم يكن لأجل موسى النقي الطاهر بل لأجل الشعب ليخشعوا فيمكنهم سماع صوت الله. فالشعب كان غارقا في خطاياه بعيدا عن الله وهذا ما اتضح بعد ذلك في تذمرهم وفي موضوع العجل الذهبي... إلخ.
إِنْ مَسَّتِ الْجَبَلَ بَهِيمَةٌ، تُرْجَمُ أَوْ تُرْمَى بِسَهْمٍ = وهذه حتى لا يقترب إنسان ليمسك البهيمة فيموت هو أيضًا. وهذا ليظهر خطورة التعدي على أوامر الله. أما العهد الجديد فكان المسيح، الله بنفسه جالسا معهم على الجبل يعلمهم ويفرحوا به. بل يقضون أيامًا معه في الجبل دون أن يشعروا بالجوع أو العطش أو الخوف.
تأمل روحي:- النفس التي تتقبل كلمة الله فيها تصير كالجبل الراسخ الملتهب بالنار الإلهية تحيط به الأسرار الإلهية كضباب ويسمع في داخله أصوات البوق معلنة الحق، بل يصير هو بوق يعلن الحق بحياته الداخلية وسلوكه الظاهر. تهب فيه عواصف الروح وتحطم كل شر يسلك إلى هذه النفس. وكل بهيمة أي كل فكر حيواني يقترب إليها يرجم بحجارة الحق ويضرب بسهم الصليب فلا يكون له موضع في داخلها.
المصدر: موقع الانبا تكلا