كولوسي 1: 9-11

من أجل ذلك نحن أيضًا منذ يوم سمعنا لم نزل مصلين وطالبين لاجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي. لتسلكوا كما يحق للرب في كل رِضَى مثمرين في كل عمل صالح ونامين في معرفة الله. متقوين بكل قوة بحسب قدرة مجده لكل صبر وطول اناة بفرح.

هنا نرى صلاة الرسول عنهم حتى لا يتشوَّشوا بفلسفات الغنوسيين الكاذبة. فهم بدأوا يتشككون بسبب تعاليم الغنوسيين والمتهودين. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ = من أجل إيمانهم ورجائهم ومحبتهم فالله لن يتركهم نهبًا للتعاليم الخاطئة، ويرسل لهم من يصحح لهم مفاهيمهم ويعلمهم التعليم الصحيح إذ هم مخدوعين، ضللهم آخرين، وهم بسطاء غير فاهمين. وهنا نرى الروح القدس يحرك قلب بولس الرسول ويرشده لما يكتبه ليعلمهم. لكن التعليم بلا صلاة يصبح بلا جدوى. لذلك نجد بولس الرسول يصلي لأجلهم لينقذهم الله من الهراطقة الذين يشككونهم. فخادم بلا صلاة، يخطئ (1صم 23:12) ويصبح مرائيًا.

تَمْتَلِئُوا مِنْ مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْمٍ رُوحِيٍّ لِتَسْلُكُوا = هذا ما يصلي بولس لأجله وهو يصلي ليعطيهم الروح القدس قوة إدراك جديدة بها يعرفون مشيئة الله، بل يمتلئوا من هذه المعرفة، والامتلاء يعني أنه لا يصير هناك معرفة أخرى داخلهم مصدرها العالم مثلًا، أو خبرات سيئة من الآخرين أو تشويشات هؤلاء الهراطقة. والمعرفة التي يطلبها لهم الرسول، يطلبها بأن تكون فِي كُلِّ حِكْمَةٍ ، أي يمتلئوا من الحكمة التي ليست بشرية فهذه لا تعطِي سوى العَمَى blindness والجهل بأمور الله. بل الحكمة التي مصدرها الروح القدس روح الحكمة (إش11: 2) ، ويعطي معها فَهْمٍ رُوحِيٍّ فالحكمة هي معرفة عقلية للمبادئ الأولية للحياة المسيحية، ونجد لذلك البسطاء كالأطفال ، يفهمون أسرار العقيدة بسهولة. أما الفهم فهو الاستخدام العملي للحكمة أي إدراك هذه المبادئ الأولية وتحويلها إلى سلوك عملي وهذا يعني ببساطة تنفيذ وصايا الله والحياة في بر. ولاحظ أن عمل الروح القدس أنه يعلمنا كل شيء (يو26:14). ويعطي قوة تعيننا على السلوك المسيحي = النعمة، الذي ينير هو الطريق إليه، فهو يعطي الإقتناع ويعطي المعونة لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضىً، = ومن هذا نفهم أن هدف المعرفة ليس للمعرفة فقط كما يقول الغنوسيون، بل الهدف هو السلوك كما يرضي الله. فالرسول يقرن المعرفة بالسلوك. ونفهم أيضًا أن المعرفة هي للجميع لأن مصدرها الروح القدس، فهي ليست حكرًا للأذكياء أو الفلاسفة كما يقول الغنوسيون فالروح القدس قادر أن يحول الجاهل البسيط إلى حكيم. لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ = السلوك الذي يليق بنا كخاصة للرب، ويمكن أن نرضيه به ونأتي بثمار قصد أن يظهرها بنا لأجل مجد اسمه "لكي يرى الناس أعمالكم الصالحة ويمجِّدوا أباكم" (مت16:5) + "أنا إخترتكم.. لتذهبوا وتأتوا بثمر" (يو16:15). وسلوكنا هذا يجب أن يتفق مع حياتنا الجديدة ودعوتنا السماوية وبنوتنا لله. ومن يمتلئ من معرفة مشيئته يستطيع أن يميِّز الأشياء التي ترضيه والتي لا ترضيه (أف10:5) فما يرضي الله في أعمالنا يصاحبه سلام يملأ القلب والعكس.

نَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ= الله أعلن نفسه لنا في شخص يسوع المسيح. فكلما عرفنا المسيح عرفنا الله أيضًا فالمسيح هو صورة الله. وعمل الروح القدس فينا هو أن يشهد للمسيح ويعرِّفنا به (يو16: 14-16). وهذه المعرفة يعلِّمها لنا يوميًا الروح القدس، فهي معرفة نامية، تنمو كل يوم لمن يثابر على الصلاة وعلى دراسة كلمة الله، أي عِشرة يومية مع الله في هدوء لنسمع صوت الروح القدس الذي يحكي لنا عن المسيح فنعرفه. ويساعدنا على النمو أن نمارس وسائط النعمة (ممارسة الأسرار) . ونلاحظ أن قوله "نامين في معرفة الله" أتى بعد قوله "معرفة مشيئته وفهمها" أي إدراكها وتنفيذها. فمن يعرف وصايا الله وينفذها تزداد معرفته بالله من خلال التنفيذ العملي لوصاياه، وبهذا ننمو يوميًا من خلال الإنجيل المعاش. فمن يفعل هذا يبني بيته على الصخر (مت7: 24-27). هذه المعرفة تحمينا من أفكار الهراطقة وتشكيك إبليس لنا في الله وفي محبته. ونلاحظ أنه كلما عرفنا المسيح نعرف الآب أيضًا، وزيادة المعرفة هي نمو روحي، ومعرفة الله ومعرفة المسيح هي حياة (يو3:17) أي نظل نعرف كل يوم شيئًا جديدًا عن الله، هنا وفي الأبدية، وما نعرفه يزيد فرحنا، فمعرفة الله فرح أبدي لا ينتهي. وهذا في مقابل المعرفة الكاذبة التي للغنوسيين والتي يتوصلوا لها بالإدراك العقلي. لذلك يحدثنا هنا عن الحكمة والنمو بواسطة الروح القدس ومعرفة المسيح ومشيئة الله.

ومعرفة الله تعني الإتحاد بالله، والله حياة، فمن يتحد بالله تكون له حياة أبدية "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو17: 3) وراجع تفسير هذا في (مت11 : 25 - 30). وحتى يتم هذا الإتحاد ينبغي أن نسلك في خوف الله ونحيا حياة البر بطاعة وصاياه فكيف يتحد النور (الله) بالظلمة (الإنسان الخاطئ) [وراجع تفسير يو15: 9، 10]. وهذا ما نفهمه من هذه الآيات أيضا

"نامين في معرفة الله" = الثبات في الإتحاد بالله، وهذا القول يأتي بعد قوله "معرفة مشيئته وفهمها" = أي تنفيذ وصايا الله.

مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ = من يعرف مشيئته ويسلك بها وينمو في معرفة الله تأتيه القوة، والحماية من الله (النعمة) حتى لا يضيع منا المجد الذي أعده الله لنا، فبدون الله لا نستطيع أي شيء (يو15: 5). وهذا أيضًا عمل الروح، فهو يعين ضعفاتنا (رو 26:8).

بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ = فقوة الله التي يهبها لنا لا حدود لها، فحدودها هي قدرة مجده وهذه لا نهائية. ولكن لا قوة من فوق بدون جهاد. "فالله الذي خلقنا بدوننا لا يستطيع أن يخلصنا بدوننا" (القديس أغسطينوس).

لِكُلِّ صَبْرٍ = "بصبركم إقتنوا أنفسكم" (لو21: 19) + من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت: 24: 13). ليس معنى أن الله يقوينا ويحمينا أنه لا توجد شدائد، بل أن الله يعطي لمن يصبر أن يحتمل بفرح = فالتلاميذ حين ضربوهم فرحوا (أع 41:5). بل أن الضيقات هي فرصة ليعلن الله نفسه لنا فننمو، فالآلام فرصة لإختبار الله والنمو. وكلمة صبر في اليونانية تعني القدرة على مواجهة كل مواقف الحياة بروح منتصرة لا تستسلم للهزيمة. وهنا الصبر والفرح عطية من الله، لمن لا يتذمر عند التجربة ويشكر الله عليها، هنا يجد الصبر والفرح داخله. إذن ما هو المطلوب؟ 1) اتخذ قرارا بأن لا تتذمر مهما حدث. 2) اتخذ قرارا بالثقة في أن الله صانع خيرات. 3) لا تقل أنا أريد أن أفهم فأحتمل. فمن يستطيع أن يدرك حكمة الله بعقله المحدود، والله لا يطالبنا بأن نفهم بل يطالبنا بالثقة فيه وفي أحكامه وأنه لا يخطئ. حينئذٍ يعطيك الله الصبر وطول الأناة بفرح وسط الشدائد كهبة مجانية. أما المتذمر فالله لن يعطيه شيئا.

 المصدر: موقع الانبا تكلا